فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام

قال الله تعالى في سورة البقرة:( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)، معنى شَطْره، أي: نَحوَه وتلقاءَه أي إلى شطره أي إلى جهته كما قال الإمام الشافعيُّ في كتابه الرسالة مبيِّنًا أنَّ الشطر والتِلقاء والجهة في لغة العرب واحد، وبهذا فسَّر الآية أبو العالية وقتادة والفراء والربيع والماتريديّ والأزهريّ وابن سيده والقفال والرازي وابن قدامة وأبو حيان الأندلسي والفيروز بادي ومرتضى الزبيدي وغيرهم. فمن كان بعيدًا عن البيت الحرام وأراد التوجه إلى القبلة فيتوجه إلى جهتها، في أيِّ بلد كان، إذ هذه هي الطريقة التي دلَّت عليها الآية للتوجه إلى القبلة. قال الماورديّ: أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام حيث ما كانت أي الجهة من البلدان اهـ. وقد أرشد الكتاب والسنّة وفعل السلف إلى كيفية معرفة الجهة، من أمثلة ذلك ما دل عليه كلام الشافعيّ أنَّ الذين غاب عنهم عينُ الكعبة مأمورون بالتوجه إليها بطلب الدلالة عليها لا بما استحسنوه، وبيَّن أنَّ من هذه الدلائل الجبال التي يعرفون مواضعها من الأرض والشمس والقمر والرياح التي يعرفون مهابَّها، كما في قوله تعالى:( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )، وقوله تبارك وتعالى:( وَعَلَامَاتٍ ۚوَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)،اهـ ويزيد هذا وضوحًا ما رواه الطبرانيّ من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأظِلَّة لذكر الله" وعلى هذا أجمع من وضع المحاريب من المسلمين قديمًا، فإنهم أجمعوا عند وضعها على النظر في جهة البلد بالنسبة لمكة، فإن كان شمالها وجهوا المحراب جنوبًا، أو جنوبها وجَّهوا المحراب شمالًا، أو شرقها وجهوا المحراب غربًا، أو غربها وجهوا المحراب شرقًا. وعرفوا كون البلد شمال مكة أو جنوبها من مراقبة ارتفاع نجم الشمال أو نجم الجنوب، ولم تختلف طريقتهم هذه في حال كان البلد قريبًا من مكة كاليمن والشام، أو أبعد كفارس، أو أبعد كالأندلس. وقد نصَّ أبو حنيفة على أن المشرق قبلة أهل المغرب والمغرب قبلة أهل المشرق والشمال قبلة أهل الجنوب والجنوب قبلة أهل الشمال اهـ ولم يُفَرِّق في ذلك بين قريب وبعيد، فالناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حول المركز كما قال المقريزي في خِطَطه، ونصَّ على أن من كان من الكعبة فيما بين الشمال والغرب فقبلته فيما بين الجنوب والمشرق. وقبله قال ذلك ابن سراقة وابن جماعة، من غير التفات أحدٍ من هؤلاء إلى قرب مسافة أو بعدها، بل نظروا إلى الجهة فقط. والبيت الحرام ومكة واقعان بلا شك بالنسبة إلى أميريكة الشمالية في جهة جنوب الشرق، سواء اعتقد الشخص أن الأرض مسطحة أو مكورة أو بيضويّة شبيهة بالكرة، فلا بدَّ أن يستقبل المصلي تلك الجهة، على ما دلت عليه الآية و كما يدل عليه كلام الشافعي وأبي حنيفة والماتريدي وغيرهم. وخطوط الطول والعرض وحسابات الفلكيين الحادثة بعد نزول الشريعة وعصور الصحابة والتابعين لا يستند إليها إلا إذا وافقت الشريعة، ولذلك ذكر ابن السَرَّاج المالكي اتفاق أهل الحساب لا عبرة به، لعدم ورود الشريعة المحمدية بطريقتهم في استخراج القبلة، ومثله ذكر ابن عابدين. وأما رؤية بعض من في أمريكا الشمس في الشمال الشرقي في الوقت الذي تكون فيه الشمس عمودية فوق الكعبة فلا يدلّ على أنّ الاتجاه إلى القبلة هو الشمال الشرقيّ، لأن المأمور باستقباله هو جهة القبلة لا الشمس لذاتها. ثمّ لو فرض قدوم صحابي إلى امريكية الشمالية فلا شك أنه كان سينظر في النجم وفي جهة شروق الشمس ونحو ذلك ثم يتوجّه في صلاته إلى جنوب الشرق ولم يكن ليخطر في باله خطوط طول ولا خطوط عرض ولا حساب مثلثات كروية. هذا وقد طلب الشرع من المصلي الاجتهاد في تحديد القبلة في مواضع كثيرة ولو كان الاعتماد في الاجتهاد على خطوط الطول والعرض والحسابات لعسر ذلك جدًّا على الناس، والاجتهاد في القبلة لا بُد أن يكون مبنيًّا على أمر يسهل على العامة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( نحن أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسُب)، أي لا نعتمد عليهما في تقرير ابتداء الشهر وانتهائه وما شابهه من الأمور التي يحتاج إلى ملابستها عامّة الناس، كالتوجه إلى القبلة. وبما ذكرنا أفتى شيخنا رحمة الله عليه المجدّد عبد الله الهرري وشيخ الأزهر السابق جادَ الحق علي جاد الحق رحمه الله وقال لا عبرة بقصر المسافة أو طولها وهيئة مجلس العلماء في جنوب أفريقية والشيخ عطية صقر الرئيس الأسبق للجنة الفتوى في الأزهر وغيرهم. فهذه الطريقة النبويّة في تحديد القبلة، فكيف يجوز بعد ذلك الخروج عنها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم". وإذا دخلتَ مسجدًا من المساجد فكذلكَ لا بُدَّ لكَ من الاجتهاد لمعرفةِ القبلةِ إلَّا إذا كانَ هذا المسجدُ قديمًا مَضَى عليه نحوُ ثلاثُمِائَةِ سنةٍ مَثَلًا أو أكثرَ وصلَّى فيه أهلُ العلم من غيرِ أنْ يُنْكِرُوا وجهةَ محرابهِ فهذا تَصِحُّ الصَّلاةُ فيه من غيرِ اجتهاد. المسجدُ الذي لم يَمْضِ عليه زَمانٌ طويلٌ لا بُدَّ من الاجتهاد فيه. تنبيه: المأمومُ إذا اختلفَ اجتهادُه عن اجتهادِ الإمامِ في الصَّلاةِ في معرِفة القِبلة فإنَّ قُدْوَتَهُ به لا تَصِحُّ. واعلم انه يشترط لصحة الصلاة استقبال الكعبة أي جِرمها أو ما يحاذي جرمها إلى السماء السابعة والأرض السابعة، فلو استقبل مُشاهِدُ الكعبةِ الكعبةَ ببعض بدنه وبعضُ بدنه خارج عنها لم يكف. والمراد بالكعبة القدر القائم الآن. والمراد بالاستقبال أن يستقبل بالصدر في القيام والقعود وفي معظم البدن في الركوع والسجود. والمجتهد في القِبلة لا يأخذ بقول مجتهد غيره وإنْ فعل لا تنعقد صلاته بل يجتهد هو لنفسه وأما إن دخل بيت ثقة فقال له صاحب البيت الثقة القبلة هكذا يجوز له الاعتماد على كلامه. وأما الطفل المميز الذي لا يُحسن الاجتهاد فيقال له القبلة من هنا. قال الله تعالى: ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ، هذه الآية نزلت في أمر يختص بالصلاة وهو المروي عن كافة الصحابة والتابعين وقولهم حجة، وظاهر قوله تعالى: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ ﴾ يفيد التوجه إلى القبلة في الصلاة. وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال: إنما نزلت هذه الآية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر. وكان عليه السلام إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعًا يومئ برأسه نحو المدينة، فمعنى الآية: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ ﴾ وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم: ﴿ فَثّمَّ وَجْهُ اللهِ ﴾ فقد صادفتم المطلوب، قال مجاهد تلميذ ابن عباس: « فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي قبلة الله» رواه البيهقي في الأسماء والصفات.﴿ إنَّ اللهَ وَاسِعٌ﴾ الفضل غني، فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحال لزم أحد الضررين إما ترك النوافل وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة، بخلاف الفرائض فإنها صلوات معدودة محصورة فتكليف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج، فبخلاف النوافل فإنها غير محصورة فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرَج، والله أعلم واحكم..